خرج عُدي يبحث عن الصوت الداعم لقضية أخيه منتظر الزيدي. ذلك الصوت الذي ظن أن الأوضاع الأمنية في العراق »تمنعه من الوصول«. بعد اعتقال إخيه إثر رمية الحذاء التاريخية، كان يسمع آلاف المحامين الذين يتبرعون للدفاع، والجمعيات التي تعلن التضامن، وأضعاف ذلك العدد من العرب المبتهجين بمن »أعاد لهم الكرامة«. خرج عُدي ليلاقي هذه الأعداد، لتكون له عوناً في وضع »خاتمة سعيدة« لقصة بدأت من حيث لم يتخيل أحد في العالم. ولأن »الشارع العربي والاعلام هما من حالا دون تصفية منتظر من أول يوم«، كما يجزم عُدي، فقد خرج عُدي ليلاقيهما، اذ كما يكاد صوته ان يُبح وهو يقولها ويكررها: »ليس من المعقول أن الجميع يحتفلون ويهللون، وصاحب الفرح وصانعه.. في السجن«.
خرج، ولم يخرج. عائلة منتظر الزيدي الآن في اللجوء. لم تتخيل هذه العائلة نفسها تغادر العراق يوماً. يحكي عُدي كيف كانوا يعيشون، في شارع »الرشيد«، على بعد عشرات الأمتار من التفجيرات، ورغم كل ذلك الوعيد اليومي، لم يفكروا بترك العراق: »كنت أرى كيف يعيش العراقيون في بلاد اللجوء والاغتراب، وأقول نُدفن في العراق ولا نخرج منه«. لكن المفارقة انهم تركوه بعد خطبٍ من عيار مختلف بكل المقاييس، »كنا نظن أن العراقيين سيحتضنوننا بعده«، يقول عُدي.
سارت الأمور بعكس ما تخيّلت العائلة. في اليوم التالي، لواقعة »الحذاء« هجر سكان البناية التي كانت عائلة منتظر تقطنها. خافوا من عواقب تشبه ما حدث للنحاتة العراقية ليلي العطار التي قتلها صاروخ، في منزلها، بعدما رسمت صورة جورج بوش لتُداس على ارضية فندق الرشيد. حضر الناس من مناطق مختلفة في العراق لتهنئة العائلة، لكن أحداً من سكان شارعهم لم يزرهم. تجاهلوهم تماما، كما يشرح عُدي: »عشنا فترة موحشة. لا نزور أحداً، ولا احد من حينا يطرق بابنا، فقد كانوا خائفين من التورط في القضية«.
ازداد الضغط على العائلة، خصوصا بعد تصريح رئيس الوزراء العراقي بأن »من أرسل منتظر هو أحد الذبّاحين«. يقول عُدي إن هذه الكلمة ترنّ في أذن العراقيين، فهي ترمز عندهم الى »القاعدة«. ضغوط اوقفت عُدي على حاجر، وكان الرجل المسلح يصرخ في وجهه: »يد أخيك يجب أن تقطع على فعلته«. خوفهم من الجو الموتور حولهم قادهم الى المغادرة، »فإن لم نقتل على يد الحكومة، سيقتلنا أحد أعدائها ليورطها«. ترك عُدي العراق أولاً، فالخوف على العائلة من صورته التي صارت معروفة للاعلام، جعلته يختار ان تغادر لوحدها، وبدون ان تكشف عن هويتها، وهي تعبر ١٢ حاجزاً تقيمها »الصحوات« وهي القبائل التي تقاتل القاعدة ويدعمها الاميركيون«.
تعيش العائلة الآن في منزل على اطراف منطقة شعبية. تتحفظ على التصريح بمكان سكنها، فكما يقول عُدي »يوجد في سوريا مليون ونصف عراقي، وليسوا كلهم لاجئون بريئون. يخرج عُدي هاتفه الخلوي، ويستغرب انه لم يمض عليهم اسبوع في سوريا، حتى وصلته رسالة تهديد على رقم هاتفه السوري الجديد. الرسالة تقول: »سوف تكون السجون العراقية بانتظارك«.
حمل ثقيل الآن على كبير العائلة، عُدي الزيدي، وهو الذي رعى شؤونها بعد وفاة الوالدين. يتحلق حوله ولداه، بينما يحكي عن عمهما، وعن أهمية التركيز على قضية اعتقاله وتعذيبه: وائل (٤ سنوات) وعادل (٨ سنوات)، الذي ترك مدرسته، بعد خوف الأهل عليه من الاختطاف.
هم الآن في دمشق، وعًدي يحاول ان يجول لدعم قضية شقيقه. يعيقه في ذلك صعوبة الدخول الى البلدان العربية، فالأمر محصور بالحصول على »فيزا« او دعوة. وهو يرفض أن يتلقى أية مساعدات مادية، ويعول على المنظمات الانسانية والنقابات التي بإمكانها عبر علاقاتها الضغط على الحكومة العراقية، ورفع دعاوى في القضاء الدولي تحرجها. سلاحه الوحيد هو رجاؤه ان يرى ترجمة فعلية، لما صدر من تأييد لقضية منتظر. وغير ذلك لا يملك: »المظاهرات مكلفة، والحال لا تساعد. في العراق بعت سيارتي كي أغطي تكاليف مظاهرة نظمتها، بين تخطيط لافتات وطباعة صور وتجهيزات صوت. خرجنا وبعنا بيتنا وكل ما نملك لنتابع قضية شقيقي«.
وما يزعج شقيق منتظر الزيدي ان »الحذاء صار أشهر من صاحبه، صار أسطورة، بينما هناك كثيرين لا يعرفون اسم صاحبه او يخطئون به«. هذه الشهرة حاول كثيرون استغلالها. شركة تركية تعرض على عائلة الزيدي القول إن حذاء منتظر من صنعها، على أن تنتج ماركة أحذية باسمه وتزودهم منها طيلة حياتهم. وأناس يريدون إنتاج »سي.دي« من شعر وغناء شعبي لمنتظر وحذائه، لينتفعوا.
»اطق حذاءك تسلم...«، هكذا يرن هاتف عُدي. جملة خطابية من شعر كتب للواقعة. الكثير من الأغاني الشعبية في العراق غنّيت أيضا. ما يؤلمه ان المشكلة الاساسية في كل ذلك هي »نسيان ان منتظر تعرض للتعذيب وما زال في السجن. نسيان ان هذا جزء أساسي من القضية«. بعد أيام من الإقامة في سوريا، تتبدّى الامور أصعب على العائلة. فهم يلمسون الآن »الصمت« حيال قضية سجن ابنهم. يتردد عُدي في قولها، لكنه يخرجها أخيرا: »في سوريا سمعت مثلاً أعجبني: نحن العرب رغوة قهوة، نفور بسرعة ونهمد بسرعة، ونقول اكثر بكثير مما نفعل«.
فرغم آلاف دعوات التضامن، لم يترجم فعلياً منها سوى توكّل محامية سورية الدفاع عن منتظر الزيدي. عُدي يحاول وينتظر ردة فعل تثبت ما هتفت به المظاهرات تحية لمن »ردّ كرامة العرب«. التبجيل والتهليل »البطل... البطل« لا ينفعه الآن، بل الخروج لدعم قضية إطلاق سراحه. فبين ان يحاكم منتظر على أساس أن ما فعله »شروع في قتل« رئيس ضيف (المادة ٢٢٣ من القانون العراقي)، أو »توجيه إهانة« له (٢٢٧) فرق كبير. الأولى يحاكم عليها بالسجن من ٧ الى ٥١ سنة، والثانية بستة شهور، وكفالة تخرجه. وأما الأمل الأكبر فهو أن يعتبر القاضي محاكمة منتظر وسجنه، كما تنص احدى مواد القانون (المادة ١٣٩)، تسبب فوضى وبلبلة، كما حدث في محاكمة مقتدى الصدر عام ٢٠٠٥.
ان تجري المحاكم على أساس هذه المادة الاخيرة هو رجاء عائلة منتظر الزيدي، ولأجله تحاول استنهاض دعم الشارع والإعلام العربيين. رجاء يترجمه عُدي بدعوة من بضع كلمات : »منتظر ينادي فهل من مجيب«؟